فصل: (سورة التوبة: آية 95)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولا يصح هذا الوقف، ولا يجوز، ولا تصحّ الصلاة في هذا المسجد، لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولعنه من اتخذ القبر مسجدا، أو أوقد عليه سراجًا.
قال ابن القيم: فهذا دين الإسلام الذي بعث به رسوله ونبيه، وغربته بين الناس كما ترى. انتهى.
السابع: قال بعض المفسرين اليمانيين: في الآية دلالة على فضل المسجد الموصوف بهذه الصفة، يعني التأسيس على التقوى، وفيها أن نية القربة في عُمارة المسجد شرط، لأن النية هي التي تميز الأفعال.
وفيها: أنه لا يجوز تكثير سواد الكفار- ذكر ذلك الحاكم- لأنه قال تعالى: {لا تقم فيه أبدًا} وأراد بالقيام الصلاة.
الثامن: قال ابن كثير: في الآية دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائه على عبادة الله وحده، لا شريك له، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء، والتنزه عن ملابسة القاذورات.
وقد روى الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح، فقرأ الروم فأوهم، فلما انصرف قال: «إنه يلبس علينا القرآن، إن أقوامًا منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء». فدلّ هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة، ويعين على إتمامها وإكماله، والقيام بمشروعاتها.
التاسع: ذهب أبو العالية والأعمش إلى أن المراد من الطهارة في الآية، الطهارة من الذنوب، والتوبة منها، والتطهر من الشرك.
قال الرازيّ: وهذا القول متعين، لأن التطهر من الذنوب والمعاصي هو المؤثر في القرب من الله تعالى، واستحقاق ثوابه ومدحه، ولأنه تعالى وصف أصحاب مسجد الضرار بمضارّة المسلمين، والكفر بالله، والتفريق بني المسلمين، فوجب كون هؤلاء بالضد من صفاتهم، وما ذلك إلا كونهم مبرئين عن الكفر والمعاصي. انتهى.
أقوال: لا تسلم دعوى التعيّن، فإن اللفظ يتناول الطهارتين الباطنة والظاهرة. بل الثانية ما رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وابن خزيمة في صحيحه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء: «قد أثنى الله عليكم في الطهور، فماذا تصنعون»؟ فقالوا: نستنجي بالماء.
وروى البزّار عن ابن عباس قال: هذه الآية في أهل قباء، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا تنبع الحجارة بالماء.
فإن صح ذلك كان المرادَ من الآية، وتكون حثًّا على الطهارة المذكورة، ومدحًا لها. وكون ذويها على الضد من صفات أولئك، يستفاد من عموم هذا، ومن قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} الآية.
العاشر: قال القاشاني: لما كان عالم الملك تحت قهر عالم الملكوت، وتسخيره، لزم أن يكون لنيات النفوس وهيئاتها تأثير فيما يباشرها من الأعمال، فكل ما فعل بنية صادقة لله تعالى عن هيئة نورانية، صحبته بركة ويمن وجمعية وصفاء، وكل ما فعل بنية فاسدة شيطانية عن هيئة مظلمة، صحبته تفرقة وكدورة ومحق وشؤم.
ألا ترى الكعبة كيف شرفت وعظمت وجعلت متبركة لكونها مبنية على يدي نبيّ من أنبياء الله، بنية صادقة، ونفس شريفة صافية، عن كمال إخلاص لله تعالى؟ ونحن نشاهد أثر ذلك في أعمال الناس، ونجد أثر الصفاء والجمعية في بعض المواضع والبقاع، والكدورة والتفرقة في بعضها.
وما هو إلا لذلك، فلهذا قال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى} الآية، لأن الهيئات الجسمانية مؤثرة في النفوس، كما أن الهيئات النفسانية مؤثرة في الأجسام، فإذا كان موضع القيام مبنيًّا على التقوى وصفاء النفس، تأثرت النفس باجتماع الهمة، وصفاء الوقت، وطيب الحال، وذوق الوجدان، وإذا كان مبنيًّا على الرياء والضرار، تأثرت بالكدورة والتفرقة والقبض.
وفيه إشعار بأن زكاء نفس الباني، وصدق نيته، مؤثر في البناء، وأن تبرّك المكان، وكونه مبنيًّا على الخير، يقتضي أن يكون فيه أهل الخير والصلاح، ممن يناسب حاله حال بانيه، وأن محبة الله واجبة لأهل الطهارة لقوله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}. اهـ.

.قال ابن عاشور:

جملة: {لا يزال بنيانهم} يجوز أن تكون مستأنفة لتعدَاد مساوي مسجد الضرار بذكر سوءِ عواقبه بعد أن ذكرَ سوء الباعثثِ عليه وبعد أن ذكر سوء وقعه في الإسلام بأن نهى الله رسوله عن الصلاة فيه وأمرَه بهدمه، لأنه لما نهاه عن الصلاة فيه فقد صار المسلمون كلهم منهيين عن الصلاة فيه، فسلب عنه حكم المساجد، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه.
ويرجح هذا الوجه أنه لم يؤت بضمير المسجد أو البنيان بل جيء باسمه الظاهر.
ويجوز أن تكون خبرًا ثانيًا عن {الذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا} [التوبة: 107] كأنه قيل: لا تقم فيه ولا يزال ريبةً في قلوبهم، ويكون إظهار لفظ {بنيانهم} لزيادة إيضاحه.
والرابط هو ضمير {قلوبهم}.
والمعنى أن ذلك المسجد لما بنوه لغرض فاسد فقد جعلهُ اللّهُ سببًا لبقاء النفاق في قلوبهم ما دامت قلوبهم في أجسادهم.
وجَعل البنيان ريبةً مبالغة كالوصف بالمصدر.
والمعنى أنه سبب للريبة في قلوبهم.
والريبة: الشك، فإن النفاق شك في الدين، لأن أصحابه يترددون بين موالاة المسلمين والإخلاص للكافرين.
وقوله: {إلا أن تقطع قلوبهم} استثناء تهكمي.
وهو من قبيل تأكيد الشيء بما يشبه ضده كقوله تعالى: {ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سَم الخياط} [الأعراف: 40]، أي يبقى ريبة أبدًا إلا أن تقطع قلوبهم منهم وما هي بمُقطعة.
وجملة: {والله عليم حكيم} تذييل مناسب لهذا الجعل العجيب والإحكام الرشيق.
وهو أن يكون ذلك البناء سببَ حسرة عليهم في الدنيا والآخرة.
وقرأ الجمهور {تُقطع} بضم التاء.
وقرأه ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب {تَقطَّعَ} بفتح التاء على أن أصله تتقطع.
وقرأ يعقوب {إلى أن تقطع} بحرف (إلى) التي للانتهاء. اهـ.

.قال الشعراوي:

{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}
البنيان الذي بنوا هو مسجد الضرار، وأرادوا به ضررًا وكفرًا وتفريقًا وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعدهم أن يصلي فيه، وكشف له الحق أنهم أرادوا بصلاة رسول الله فيه ذريعة وأن يرسموا الصلاة فيه.
ولما عاد صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك أنزل الله عليه: {لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} وأرسل صلى الله عليه وسلم بعضًا من صحابته ليهدموا هذا المسجد، ولم يكتف بالهدم، بل أمر أن يُجْعَل مكان المسجد قمامة إشعارًا منه صلى الله عليه وسلم بأن المسجد بنيته الأولى كانت نجاسته نجاسة معنوية، وحين توضع فيه النجاسة الحسّية، تكون طهارة بالنسبة للنجاسة المعنوية، فكأنه طهر المكان من النجاسة المعنوية بالنجاسة الحسيّة.
ورسول الله يعلمنا هنا أن الأمر ليس أمر نجاسات حسيّة، وإنما النجاسات المعنوية أفظع من النجاسات الحسيّة، فالإنسان قد يتحرز من النجاسات الحسيّة، لكن النجاسات التي تخامر القلوب والعقائد والعواطف فهي التي تسبب للإنسان الشقاء.
وهنا يقول الحق: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} فبعد أن هدم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا البنيان وصار موقعه موضع القذارة، بقي أمر هذا البنيان موضع شك منهم وصاروا يتوجسون أن ينزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم العقاب، وظلوا في شك من ان يصيبهم رسول الله بسوء، ولن يذهب هذا الشك من قلوبهم إلا أن تقطع تلك القلوب بالموت.
إن الشك والريبة محلها القلب، والقلب هو العضو الثاني في استبقاء الحياة، أما العضو الأول في استبقاء الحياة فهو المخ، فما دامت خلايا المخ سليمة، فمن الممكن أن تعود الحياة إلى الإنسان ولكن برتابة، أما القلب فحين يتوقف فالأطباء يحاولون أن يعيدوا له الحركة، إما بشق الصدر أو تدليك القلب ليعود إليه النبض، وقد يفلحون ما دامت خلايا المخ سليمة، فالمخ في الإنسان هو سيد الجسم كله، ولذلك تجدون أن الحق قد صان المخ بأقوى الصيانات بعظام الجمجمة.
وكذلك النخاعات التي تتحكم في إدارة الجسد، نجده سبحانه قد كفل لها من العظام أعلى درجات الصيانة. وترى في الحفريات أن الجماجم هي أبقى شيء، مما يدل على أنه للحفاظ على المخ قد جعل الله له أقوى العظام، وما دام المخ سيد الجسم سليمًا فمن الممكن أن تستمر الحياة، ولذلك نجد أن الجسم كله يخدم المدبر للجسم، ويحافظ على صيانته.
والإنسان إن تعرض للجوع يأكل من شحمه، وحين يفوته ميعاد تناوله للطعام، يعرض عليه الطعام يقول: ليس لي رغبة في الأكل، وهذا ليس إلاّ تعبيرًا علميًا لما حدث في الجسم، فأنت أكلت بالفعل، فما دام قد مر ميعاد طعامك ولم تأكل فإن جسمك يأخذ ما يحتاجه من الدهون المخزونة به، وإذا ما انتهى الدهن يأخذ الإنسان من لحمه، وإذا ما انتهى اللحم يأخذ الإنسان غذاءه من عظامه، وكل ذلك من أجل أن يبقى السيد وهو المخ مصانًا.
ولذلك تجد القرآن حيثما عرض مسألة سيدنا زكريا، قال على لسانه: {رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي...} [مريم: 4].
أي: أن آخر مخزن للقوت قد قارب على الانتهاء، أما النبات فهو عكس الإنسان، فسيد النبات أسفل شيء فيه وهو الجذر، ويحاول النبات المحافظة على جذره، فإن امتنع الغذاء عن النبات بامتناع المياه عنه، بدأت أوراق النبات في الذبول؛ لأنها تعطي حيويتها ومائيتها للجذر، ثم تجد الساق تجف لأنها تعطي حياة للجذر ليستمر إلى أن يأتي قليل من المياه أو قليل من الغذاء، فيعود الجذر قويًّا.
والقلب هو محل العقائد والاعتقادات، وهي الأشياء التي تنشأ من المحسّات، وتتكون في الفؤاد لتصير عقائد لا تطفو للمناقشة من جديد، أما العقل فهو يناقش كل المسائل، وما إن ينتهي من الاقتناع بفكرة حتى تستقر في القلب.
وهنا يوضح لنا الله أن هذا البنيان سيظل أثره في قلوبهم، ولن ينتهي منهم أبدًا إلا بشيء واحد هو: {أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} والقلوب لا تتقطع إلا بالموت، وكأن الشك من هذا البنيان سيظل يلاحقهم إلى أن يموتوا.
أو: {إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أي: أن تتقطع توبة وأسفًا وحزنًا.
وهذا تهديد لهم بأنهم مسيئاتهم ليست من الخارج، وإنما مسيئاتهم من ذوات نفوسهم. ووجود الريبة في نفوسهم، يعني أنها لن تجعلهم يستشرون في الإفساد لخوفهم المستمر من العقاب.
ثم يقول سبحانه: {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} وعلمه سبحانه شامل فلا تخفى عليه خافية، وحكمته سبحانه أنه يضع كل شيء في مكانه. اهـ.

.ومن فوائد الزمخشري في الآيات:

قال رحمه الله:

.[سورة التوبة: الآيات 93- 94]

{إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ}
فإن قلت: {رَضُوا} ما موقعه؟ قلت: هو استئناف، كأنه قيل: ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل: رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف {وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ} يعنى أن السبب في استئذانهم رضاهم بالدناءة وخذلان اللّه تعالى إياهم. فإن قلت: فهل يجوز أن يكون قوله: {قُلْتَ لا أَجِدُ} استئنافًا مثله، كأنه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولوا، فقيل: ما لهم تولوا باكين؟ فقيل: قلت لا أجد ما أحملكم عليه. إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض «قلت» نعم ويحسن {لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ} علة للنهى عن الاعتذار، لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به، فإذا علم أنه مكذب وجب عليه الإخلال وقوله: {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ} علة لانتفاء تصديقهم لأنّ اللّه عز وجلَّ إذا أوحى إلى رسوله الإعلام بأخبارهم وما في ضمائرهم من الشر والفساد، لم يستقم مع ذلك تصديقهم في معاذيرهم {وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} أتنيبون أم تثبتون على كفركم {ثُمَّ تُرَدُّونَ} إليه وهو عالم كل غيب وشهادة وسر وعلانية، فيجازيكم على حسب ذلك.

.[سورة التوبة: آية 95]

{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95)}
{لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ} فلا توبخوهم ولا تعاتبوهم {فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ} فأعطوهم طلبتهم {إِنَّهُمْ رِجْسٌ} تعليل لترك معاتبتهم، يعنى أنّ المعاتبة لا تنفع فيهم ولا تصلحهم، إنما يعاتب الأديب ذو البشرة. والمؤمن يوبخ على زلة تفرط منه، ليطهره التوبيخ بالحمل على التوبة والاستغفار.
وأما هؤلاء فأرجاس لا سبيل إلى تطهيرهم {وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ} يعنى وكفتهم النار عتابًا وتوبيخًا، فلا تتكلفوا عتابهم.